فصل: فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ الْعُرْفِ مَعَ الشَّرْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان ***


الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ

وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» قَالَ الْعَلَائِيُّ‏:‏ لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَلَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ، وَكَثْرَةِ الْكَشْفِ وَالسُّؤَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْفِقْهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا، فَقَالُوا فِي الْأُصُولِ فِي بَابِ مَا تُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ‏:‏ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ‏.‏

كَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ‏.‏

فَاخْتُلِفَ فِي عَطْفِ الْعَادَةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فَقِيلَ‏:‏ هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ شَرْعًا، وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَمِنْ الْعَادَةِ نَقْلُهُ إلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ عُرْفًا، وَتَمَامُهُ فِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ‏.‏

وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ فِي شَرْحِ الْمُغْنِي‏:‏ الْعَادَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَسْتَقِرُّ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ‏.‏

وَهِيَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ‏:‏

الْعُرْفِيَّةُ الْعَامَّةُ، كَوَضْعِ الْقَدَمِ‏.‏

وَالْعُرْفِيَّةُ الْخَاصَّةُ‏:‏ كَاصْطِلَاحِ كُلِّ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَالرَّفْعِ لِلنُّحَاةِ، وَالْفَرْقِ وَالْجَمْعِ وَالنَّقْضِ لِلنُّظَّارِ‏.‏

وَالْعُرْفِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ‏:‏ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، تُرِكَتْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةُ بِمَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

فَمَا فُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ‏:‏ حَدُّ الْمَاءِ الْجَارِي، الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا‏.‏

وَمِنْهَا وُقُوعُ الْبَعْرِ الْكَثِيرِ فِي الْبِئْرِ؛ الْأَصَحُّ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ‏.‏

وَمِنْهَا حَدُّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُلْحَقِ بِالْجَارِي، الْأَصَحُّ تَفْوِيضُهُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ لَا التَّقْدِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُشْرِ وَنَحْوِهِ‏.‏

وَمِنْهَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، قَالُوا‏:‏ لَوْ زَادَ الدَّمُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ الْمُفْسِدُ لِلصَّلَاةِ مُفَوَّضٌ إلَى الْعُرْفِ لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رَآهُ يَظُنُّ أَنَّهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ تَنَاوُلُ الثِّمَارِ السَّاقِطَةِ‏.‏

وَفِي إجَارَةٍ الظِّئْرِ وَفِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فِي كَوْنِهِ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا‏.‏

وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَى كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْعُرْفِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوَّاهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مِنْ بَابِ الرِّبَا، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلرِّبَا، وَإِنَّمَا الْعُرْفُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ مِنْ الصَّلَاةِ‏:‏ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ يَقُولُ السُّرَّةُ إلَى مَوْضِعِ نَبَاتِ الشَّعْرِ مِنْ الْعَانَةِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ؛ لِتَعَامُلِ الْعُمَّالِ فِي الْإِبْدَاءِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ الِاتِّزَارِ‏.‏

وَفِي النَّزْعِ عِنْدَ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ نَوْعُ حَرَجٍ‏.‏

وَهَذَا ضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ بِخِلَافِ النَّصِّ لَا يُعْتَبَرُ ‏(‏انْتَهَى بِلَفْظِهِ‏)‏ وَفِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَلَا يُكْرَهُ لِمَنْ لَهُ عَادَةٌ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ قَبْلَهُ، وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ كَرَاهِيَةِ صَوْمِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُطْلَقًا‏.‏

وَمِنْهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ لِلْقَاضِي مِمَّنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْإِهْدَاءِ لَهُ قَبْلَ تَوْلِيَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا رَدَّ الزَّائِدَ‏.‏

وَالْأَكْلُ مِنْ الطَّعَامِ الْمُقَدَّمِ لَهُ ضِيَافَةً بِلَا صَرِيحِ الْإِذْنِ‏.‏

وَمِنْهَا أَلْفَاظُ الْوَاقِفِينَ تَبْتَنِي عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا فِي وَقْفِ فَتْحِ الْقَدِيرِ‏.‏

وَكَذَا لَفْظُ النَّاذِرِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ، وَكَذَا الْأَقَارِيرُ تَبْتَنِي عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا نَذْكُرُهُ، وَسَيَأْتِي فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ‏.‏

وَتَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَبَاحِثُ‏:‏

الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ‏:‏ بِمَاذَا تَثْبُتُ الْعَادَةُ‏؟‏

وَفِي ذَلِكَ فُرُوعٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الْعَادَةُ فِي بَابِ الْحَيْضِ‏.‏

اخْتُلِفَ فِيهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِمَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، قَالُوا‏:‏ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَلْ الْخِلَافُ فِي الْأَصْلِيَّةِ أَوْ فِي الْجَعْلِيَّةِ أَوْ فِيهِمَا‏؟‏ مُسْتَوْفًى فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ تَعْلِيمُ الْكَلْبِ الصَّائِدِ يَتْرُكُ أَكْلَهُ لِلصَّيْدِ بِأَنْ يَصِيرَ التَّرْكُ عَادَةً، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ لَمْ أَرَ بِمَاذَا تَثْبُتُ الْعَادَةُ بِالْإِهْدَاءِ لِلْقَاضِي الْمُقْتَضِيَةُ لِلْقَبُولِ‏؟‏

الْمَبْحَثُ الثَّانِي‏:‏ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ

وَلِذَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ‏:‏ لَوْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَكَانَا فِي بَلَدٍ اخْتَلَفَ فِيهِ النُّقُودُ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ انْصَرَفَ الْبَيْعُ إلَى الْأَغْلَبِ‏.‏

قَالَ فِي الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ بَاعَ التَّاجِرُ فِي السُّوقِ شَيْئًا بِثَمَنٍ، وَلَمْ يُصَرِّحَا بِحُلُولٍ وَلَا تَأْجِيلٍ، وَكَانَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ كُلَّ جُمُعَةٍ قَدْرًا مَعْلُومًا انْصَرَفَ إلَيْهِ بِلَا بَيَانٍ‏.‏

قَالُوا‏:‏ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ‏.‏

وَلَكِنْ إذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِيَ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ التَّقْسِيطَ لِلْمُشْتَرِي هَلْ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ‏؟‏ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِلَا بَيَانٍ لِكَوْنِهِ حَالًّا بِالْعَقْدِ، ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّوْلِيَةِ‏.‏

وَمِنْهَا فِي اسْتِئْجَارِ الْكَاتِبِ، قَالُوا الْحِبْرُ عَلَيْهِ وَالْأَقْلَامُ، وَالْخَيَّاطُ قَالُوا‏:‏ الْخَيْطُ وَالْإِبْرَةُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكُحْلُ عَلَى الْكَحَّالِ لِلْعُرْفِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ طَعَامُ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِخِلَافِ عَلْفِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَسَدَتْ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّة، بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لِلْعُرْفِ، وَتَفَرَّعَ عَلَى أَنَّ عَلْفَ الدَّابَّةِ عَلَى مَالِكِهَا دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ لَوْ تَرَكَهَا بِلَا عَلْفٍ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا فِي وَقْفِ الْقُنْيَةِ‏:‏ بَعَثَ شَمْعًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى مَسْجِدٍ فَاحْتَرَقَ، وَبَقِيَ مِنْهُ ثُلُثُهُ أَوْ دُونَهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الدَّافِعِ، وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الْبَطَالَةُ فِي الْمَدَارِسِ، كَأَيَّامِ الْأَعْيَادِ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ فِي دَرْسِ الْفِقْهِ لَمْ أَرَهَا صَرِيحَةً فِي كَلَامِهِمْ‏.‏

وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏ فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْمَعْلُومِ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِبَطَالَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْقَاضِي مَا رُتِّبَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي يَوْمِ بَطَالَتِهِ، فَقَالَ فِي الْمُحِيطِ‏:‏ إنَّهُ يَأْخُذُ فِي يَوْمِ الْبَطَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَرِيحُ لِلْيَوْمِ الثَّانِي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَأْخُذُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْمُنْيَةِ‏:‏ الْقَاضِي يَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي يَوْمِ الْبَطَالَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَاخْتَارَهُ فِي مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ، وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ الْأَظْهَرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْمَدَارِسِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْبَطَالَةِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ لِلْمُطَالَعَةِ وَالتَّحْرِيرِ عِنْدَ ذِي الْهِمَّةِ، وَلَكِنْ تَعَارَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَمَانِنَا بَطَالَةً طَوِيلَةً أَدَّتْ إلَى أَنْ صَارَ الْغَالِبُ الْبَطَالَةَ، وَأَيَّامُ التَّدْرِيسِ قَلِيلَةً، وَبَعْضُ الْمُدَرِّسِينَ يَتَقَدَّمُ فِي أَخْذِ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْمُدَرِّسَ مِنْ الشَّعَائِرِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُدَرِّسِ لِلْمَدْرَسَةِ لَا فِي كُلِّ مُدَرِّسٍ، فَخَرَجَ مُدَرِّسُ الْمَسْجِدِ كَمَا هُوَ فِي مِصْرَ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدْرَسَةَ تَتَعَطَّلُ إذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَطَّلُ؛ لِغَيْبَةِ الْمُدَرِّسِ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

نَقَلَ فِي الْقُنْيَةِ أَنَّ الْإِمَامَ لِلْمَسْجِدِ يُسَامَحُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أُسْبُوعًا لِلِاسْتِرَاحَةِ أَوْ لِزِيَارَةِ أَهْلِهِ‏.‏

وَعِبَارَتُهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ‏:‏ يَتْرُكُ الْإِمَامَةَ لِزِيَارَةِ أَقْرِبَائِهِ فِي الرَّسَاتِيقِ أُسْبُوعًا، أَوْ نَحْوَهُ أَوْ لِمُصِيبَتِهِ أَوْ لِاسْتِرَاحَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ‏.‏

وَمِثْلُهُ عَفْوٌ فِي الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الْمَدَارِسُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى دَرْسِ الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْلَمُ مُرَادُ الْوَاقِفِ فِيهَا هَلْ يُدَرَّسُ فِيهَا عِلْمُ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ الْمُصْطَلَحِ كَمُخْتَصَرِ ابْنِ الصَّلَاحِ‏؟‏ أَوْ يُقْرَأُ مَتْنُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَنَحْوِهِمَا، وَيُتَكَلَّمُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ فِقْهٍ أَوْ عَرَبِيَّةٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ مُشْكِلٍ أَوْ اخْتِلَافٍ كَمَا هُوَ عُرْفُ النَّاسِ الْآنَ‏؟‏

قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ‏:‏ وَهُوَ شَرْطُ الْمَدْرَسَةِ الشَّيْخُونِيَّةِ كَمَا رَأَيْته فِي شَرْطِ وَاقِفِهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ سَأَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ شَيْخَهُ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْعِرَاقِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ اتِّبَاعُ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي شُرُوطٍ، وَكَذَلِكَ اصْطِلَاحُ كُلِّ بَلَدٍ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يُلْقُونَ دُرُوسَ الْحَدِيثِ بِالسَّمَاعِ، وَيَتَكَلَّمُ الْمُدَرِّسُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِخِلَافِ الْمِصْرِيِّينَ، فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ مَا يُقْرَأُ فِيهَا مِنْ الْحَدِيشثِ‏.‏

فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ الْعُرْفِ مَعَ الشَّرْعِ‏:‏

فَإِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ عَلَى الْبِسَاطِ أَوْ لَا يَسْتَضِيءُ بِالسِّرَاجِ لَمْ يَحْنَثْ بِجُلُوسِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا بِالِاسْتِضَاءَةِ بِالشَّمْسِ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِرَاشًا وَبِسَاطًا وَسَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا‏.‏

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ لَحْمِ السَّمَكِ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ‏.‏

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَابَّةً، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ تَحْتَ سَقْفٍ فَجَلَسَ تَحْتَ السَّمَاءِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى سَقْفًا إلَّا فِي مَسَائِلَ فَيُقَدَّمُ الشَّرْعُ عَلَى الْعُرْفِ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي لَمْ يَحْنَثْ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ لَمْ يَحْنَثْ بِمُطْلَقِ الْإِمْسَاكِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِصَوْمِ سَاعَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِنِيَّتِهِ مِنْ أَهْلِهِ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ لَوْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ فُلَانَةَ حَنِثَ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الشَّائِعُ شَرْعًا لَا بِالْوَطْءِ كَمَا فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ، بِخِلَافِ لَا يَنْكِحُ زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لِلْوَطْءِ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ لَوْ قَالَ‏:‏ لَهَا إنْ رَأَيْتِ الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَعَلِمَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِكَوْنِ الشَّارِعِ اسْتَعْمَلَ الرُّؤْيَةَ فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» فَلَوْ كَانَ الشَّرْعُ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ اعْتَبَرْنَا خُصُوصَ الشَّرْعِ‏.‏

قَالُوا لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ لَا يَدْخُلُ الْوَارِثُ اعْتِبَارًا لِخُصُوصِ الشَّرْعِ وَلَا يَدْخُلُ الْوِلْدَانُ، وَالْوَالِدُ لِلْعُرْفِ‏.‏

وَهُنَا فَرْعَانِ مُخَرَّجَانِ لَمْ أَرَهُمَا الْآنَ صَرِيحًا‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ حَلَفَ لَا يَطَأُ لَمْ يَحْنَثْ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً فَشَرِبَ مَاءً تَغَيَّرَ بِغَيْرِهِ فَالْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الرَّضَاعِ‏.‏

فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ الْعُرْفِ مَعَ اللُّغَةِ‏:‏

صَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ

وَعَلَيْهَا فُرُوعٌ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ حَنِثَ بِمَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ بَلَدِهِ‏:‏

فَفِي الْقَاهِرَةِ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِخُبْزِ الْبُرِّ‏.‏

وَفِي طَبَرِسْتَانَ يَنْصَرِفُ إلَى خُبْزِ الْأُرْزِ‏.‏

وَفِي زَبِيدَ إلَى خُبْزِ الذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، وَلَوْ أَكَلَ الْحَالِفُ خِلَافَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخُبْزِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقَطَائِفِ إلَّا بِالنِّيَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الشِّوَاءُ وَالطَّبِيخُ عَلَى اللَّحْمِ‏.‏

فَلَا يَحْنَثُ بِالْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ الْمَشْوِيِّ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْمُزَوَّرَةِ فِي الطَّبِيخِ وَلَا بِالْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ بِالسَّمْنِ بِخِلَافِ الْمَطْبُوخِ بِالدُّهْنِ وَلَا بِقَلِيَّةٍ يَابِسَةٍ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الرَّأْسُ مَا يُبَاعُ فِي مِصْرِهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِرَأْسِ الْغَنَمِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ ضَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ الْكَعْبَةَ لَمْ يَحْنَثْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ خَرَجَتْ عَنْ بِنَاءِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ مَسَائِلُ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ عَلَى مَا فِي الْكَنْزِ وَلَكِنَّ الْفَتْوَى عَلَى خِلَافِهِ‏.‏

وَجَوَابُ الزَّيْلَعِيِّ بِأَنَّهُ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا بِخِلَافِ الْعُرْفِ اللَّفْظِيِّ فَقَدْ رَدَّهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْأُصُولِ‏:‏ الْحَقِيقِيَّةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ إلَّا عُرْفًا عَمَلِيًّا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ حَيَوَانًا يَحْنَثُ بِالرُّكُوبِ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ وَالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُرْكَبُ عَادَةً لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا، ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ‏.‏

بِخِلَافِ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا مَهَّدَهُ، وَقَدْ عَلِمْت رَدَّهُ لَكِنْ لَمْ يُجِبْ ابْنُ الْهُمَامِ عَنْ هَذَا الْفَرْعِ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ لَوْ حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا حَنِثَ بِهَدْمِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، بِخِلَافِ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا وَفَرَّقَ الزَّيْلَعِيُّ بَيْنَهُمَا بِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْهَدْمِ، بِخِلَافِ الدُّخُولِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْمِلْكُ لَمْ يَصِحَّ بِنَاءُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ الْكَبِدِ، وَالْكِرْشِ عَلَى مَا فِي الْكَنْزِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا عُرْفًا، وَلِذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ‏:‏ إنَّهُ إنَّمَا يَحْنَثُ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ عُلِمَ أَنَّ الْعَجَمِيَّ يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ قَطْعًا، وَمِنْ هُنَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ‏:‏ وَالْوَاقِفُ عَلَى السَّطْحِ دَاخِلٌ‏:‏ أَنَّ الْمُخْتَارَ لَا يَحْنَثُ فِي الْعَجَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلًا عِنْدَهُمْ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ‏:‏ الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ هَلْ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ‏؟‏

قَالَ فِي إجَارَةِ الظَّهِيرِيَّةِ‏:‏ الْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْعًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَالُوا‏:‏ فِي الْإِجَارَاتِ لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ؛ لِيَخِيطَهُ لَهُ أَوْ إلَى صَبَّاغٍ؛ لِيَصْبُغَهُ لَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أُجْرَةً، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ وَعَدَمِهِ وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ؛ فَهَلْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ شَرْطِ الْأُجْرَةِ‏؟‏

فِيهِ اخْتِلَافٌ قَالَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ‏:‏ لَا أُجْرَةَ لَهُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ إنْ كَانَ الصَّابِغُ حَرِيفًا لَهُ أَيْ مُعَامِلًا لَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِلَّا لَا‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ إنْ كَانَ الصَّابِغُ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ بِالْأَجْرِ، وَقِيَامِ حَالِهِ بِهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَارَ لِلظَّاهِرِ الْمُعْتَادِ‏.‏

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ؛ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِصَابِغٍ بَلْ كُلُّ صَانِعٍ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّ السُّكُوتَ كَالِاشْتِرَاطِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نُزُولُ الْخَانِ وَدُخُولُ الْحَمَّامِ وَالدَّلَّالِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمُعَدُّ لِلِاسْتِغْلَالِ كَمَا فِي الْمُلْتَقَطِ‏.‏

وَلِذَا قَالُوا‏:‏ الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ، فَعَلَى الْمُفْتَى بِهِ صَارَتْ عَادَتُهُ كَالْمَشْرُوطِ صَرِيحًا‏.‏

وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ لَمْ أَرَهُمَا الْآنَ، يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُمَا عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْمَشْرُوطُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْعًا‏.‏

مِنْهَا‏:‏ لَوْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُقْتَرِضِ بِرَدِّ أَزَيْدَ مِمَّا اقْتَرَضَ هَلْ يَحْرُمُ إقْرَاضُهُ تَنْزِيلًا لِعَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ‏؟‏

وَمِنْهَا لَوْ بَارَزَ كَافِرًا مُسْلِمٌ، وَاطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بِالْأَمَانِ لِلْكَافِرِ، هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْأَمَانِ لَهُ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إعَانَةُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ‏؟‏

وَحِينَ تَأْلِيفِ هَذَا الْمَحَلِّ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ فِيمَنْ آجَرَ مَطْبَخًا لِطَبْخِ السُّكَّرِ وَفِيهِ فَخَّارٍ، أَذِنَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَتَلِفَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ فِي الْمَطَابِخِ بِضَمَانِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ‏.‏

فَأَجَبْتُ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِضَمَانِهَا عَلَيْهِ‏.‏ وَالْعَارِيَّةُ إذَا اُشْتُرِطَ فِيهَا الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ تَصِيرُ مَضْمُونَةً عِنْدَنَا فِي رِوَايَةٍ، ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْعَارِيَّةِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْجَوْهَرَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَةٍ، لَكِنْ نَقَلَ بَعْدَهُ فُرُوعَ الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الْيَنَابِيعِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ فَلَا يُضْمَنَانِ بِحَالٍ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَلَكِنْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ‏:‏

قَالَ أَعِرْنِي هَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ ضَاعَ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَأَعَارَهُ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِمَّا تَفَرَّعَ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ لَوْ جَهَّزَ الْأَبُ بِنْتَه جِهَازًا، وَدَفَعَهُ لَهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ، وَلَا بَيِّنَةَ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ؛ وَالْفَتْوَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا أَنَّ الْأَبَ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْجِهَازَ مِلْكًا لَا عَارِيَّةً لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُشْتَرَكًا فَالْقَوْلُ لِلْأَبِ كَذَا فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ‏.‏

وَقَالَ قَاضِي خَانْ‏:‏ وَعِنْدِي أَنَّ الْأَبَ إنْ كَانَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ، وَأَشْرَافِهِمْ لَمْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لِلزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَعَلَى الْأَبِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلزَّوْجِ كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ؛ لِيُقَصِّرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَجْرَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ الْعُرْفُ؛ فَالْقَوْلُ الْمُفْتَى بِهِ نَظَرَ إلَى عُرْفِ بَلَدِهِمَا، وَقَاضِي خَانْ نَظَرَ إلَى حَالِ الْأَبِ فِي الْعُرْفِ، وَمَا فِي الْكُبْرَى نَظَرَ إلَى مُطْلَقِ الْعُرْفِ مِنْ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا يُجَهِّزُ مِلْكًا؛ وَفِي الْمُلْتَقَطِ مِنْ الْبُيُوعِ، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ‏:‏ الْأَشْيَاءُ عَلَى ظَاهِرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ؛ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْحَلَالَ فِي الْأَسْوَاقِ لَا يَجِبُ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْحَرَامَ فِي وَقْتٍ أَوْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ حَيْثُ وَجَدَهُ وَلَا يَتَأَمَّلُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَالسُّؤَالُ عَنْهُ حَسَنٌ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ دُخُولَ الْبَرْذعَةِ وَالْإِكَافِ فِي بَيْعِ الْحِمَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ حَمْلَ الْأَجِيرِ الْأَحْمَالَ إلَى دَاخِلِ الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعَارُفِ، ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ‏.‏

وَفِي إجَارَاتِ مُنْيَةِ الْمُفْتِي‏:‏ رَجُلٌ دَفَعَ غُلَامَهُ إلَى حَائِكٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً؛ لِيَتَعَلَّمَ النَّسْجَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْأَجْرُ عَلَى أَحَدٍ فَلَمَّا عَلِمَ الْعَمَلَ طَلَبَ الْأُسْتَاذُ الْأَجْرَ مِنْ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مِنْ الْأُسْتَاذِ؛ يُنْظَرُ إلَى عُرْفِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَشْهَدُ لِلْأُسْتَاذِ؛ يُحْكَمُ بِأَجْرِ مِثْلِ تَعْلِيمِ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِلْمَوْلَى فَأَجْرُ مِثْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ عَلَى الْأُسْتَاذِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ ابْنَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِمَّا بَنُوهُ عَلَى الْعُرْفِ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السُّوقِ إذَا اسْتَأْجَرُوا حُرَّاسًا، وَكَرِهَ الْبَاقُونَ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْكُلِّ‏.‏

وَكَذَا فِي مَنَافِعِ الْقُرْبَةِ‏.‏ وَتَمَامُهُ فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي‏.‏

وَفِيهَا لَوْ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ؛ لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ جَوَّزَهُ مَشَايِخُ بُخَارَى وَأَبُو اللَّيْثِ وَغَيْرُهُ لِلْعُرْفِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ‏:‏ الْعُرْفُ الَّذِي تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَلْفَاظُ

إنَّمَا هُوَ الْمُقَارِنُ السَّابِقُ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ؛ وَلِذَا قَالُوا لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ الطَّارِئِ فَلِذَا اُعْتُبِرَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْلِيقِ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يُخَصِّصُهُ الْعُرْفُ‏.‏

وَفِي آخِرِ الْمَبْسُوطِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَغِيبَ فَحَلَّفَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ‏:‏ كُلُّ جَارِيَةٍ اشْتَرَيْتهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَهُوَ يَعْنِي كُلَّ سَفِينَةٍ جَارِيَةٍ، عَمِلَ بِنِيَّتِهِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ‏}‏ وَالْمُرَادُ السُّفُنُ، فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ وَنِيَّةُ الْمَظْلُومِ فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ حَلَّفَتْهُ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْك فَلْيَقُلْ‏:‏ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ، وَهُوَ يَنْوِي بِذَلِكَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِك فَيَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ وُجُوبٍ سَابِقٍ، وَرُبَّمَا يُقَدَّمُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ فَسَّرَهَا أَنَّهَا زُيُوفٌ، أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَرْضٍ لَمْ يُصَدَّقْ‏.‏

عِنْدَ الْإِمَامِ إذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ، وَصَدَّقَاهُ إنْ وَصَلَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً قَالَ‏:‏ هِيَ زُيُوفٌ صُدِّقَ مُطْلَقًا‏.‏

وَكَذَا الدَّعْوَى لَا تَنْزِلُ عَلَى الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ بِمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُقَيِّدُهُ الْعُرْفُ الْمُتَأَخِّرُ بِخِلَافِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ بَاشَرَهُ لِلْحَالِ فَقَيَّدَهُ الْعُرْفُ‏.‏

قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ الدَّعْوَى مَعْزِيًّا إلَى اللَّامِشِيِّ‏:‏ إذَا كَانَتْ النُّقُودُ فِي الْبَلَدِ مُخْتَلِفَةً أَحَدُهَا أَرَوْجُ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مَالَمْ يُبَيِّنْ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ حُمْرٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ حُمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِلَا بَيَانٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَرْوَجِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَدْ أَوْسَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مِنْ أَوَّلِ الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهَا مَسْأَلَتَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَسْأَلَةُ الْبَطَالَةِ فِي الْمَدَارِسِ فَإِذَا اسْتَمَرَّ عُرْفٌ بِهَا فِي أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا مَا وُقِفَ بَعْدَهَا لَا مَا وُقِفَ قَبْلَهَا‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِلْحَاكِمِ وَكَانَ الْحَاكِمُ إذْ ذَاكَ شَافِعِيًّا ثُمَّ صَارَ الْآنَ حَنَفِيًّا لَا قَاضِيَ غَيْرَهُ إلَّا نِيَابَةً هَلْ يَكُونُ النَّظَرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْحَاكِمُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فَلَا يُحْمَلُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ‏؟‏ فَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ‏.‏ وَلَكِنْ قَالُوا فِي الْأَيْمَانِ لَوْ حَلَّفَهُ وَالِي بَلْدَةٍ لِيُعْلِمَهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلْدَةَ بَطَلَتْ الْيَمِينُ بِعَزْلِ الْوَالِي فَلَا يَحْنَثُ إذَا لَمْ يُعْلِمْ الْوَالِيَ الثَّانِيَ، وَلَمْ أَرَ الْآنَ حُكْمَ مَا إذَا حَلَفَ مَتَى رَأَى مُنْكَرًا رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي؛ هَلْ يُعَيَّنُ الْقَاضِي حَالَةَ الْيَمِينِ‏؟‏

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ لَوْ وَقَفَ بَلَدًا عَلَى الْحَرَمِ الشَّرِيفِ، وَشَرَطَ النَّظَرَ لِلْقَاضِي هَلْ يَنْصَرِفُ إلَى قَاضِي الْحَرَمِ أَوْ قَاضِي الْبَلْدَةِ الْمَوْقُوفَةِ أَوْ قَاضِي بَلَدِ الْوَاقِفِ‏؟‏ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَخْرَجَ مِنْ مَسْأَلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَهَلْ النَّظَرُ عَلَيْهِ لِقَاضِي بَلَدِ الْيَتِيمِ أَوْ لِقَاضِي بَلَدِ مَالِهِ‏؟‏ صَرَّحُوا بِالْأَوَّلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِقَاضِي الْحَرَمِ‏.‏

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَرْجَحَ كَوْنُ النَّظَرِ لِقَاضِي الْبَلَدِ الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرِفُ بِمَصَالِحِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَهُ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَقَارُ لَا فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي وَتَنَازَعَا فِيهِ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إلَى التَّدَاعِي وَالتَّرَافُعِ، وَاخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْعُرْفُ الْعَامُّ أَوْ مُطْلَقُ الْعُرْفِ وَلَوْ كَانَ خَاصًّا‏؟‏

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ‏:‏ قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي خُتِمَ بِهِ الْفِقْهُ‏.‏

الْحُكْمُ الْعَامُّ لَا يَثْبُتُ بِالْعُرْفِ الْخَاصِّ وَقِيلَ‏:‏ يَثْبُتُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ اسْتَقْرَضَ أَلْفًا وَاسْتَأْجَرَ الْمُقْرِضُ لِحِفْظِ مِرْآةٍ أَوْ مِلْعَقَةٍ كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْأَجْرِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ‏:‏ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ اعْتِبَارًا لِعُرْفِ خَوَاصِّ بُخَارَى‏.‏

وَالصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلِاخْتِلَافِ، وَالْفَسَادُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ بِالتَّعَارُفِ الْعَامِّ وَلَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ أَفْتَى الْأَكَابِرُ بِفَسَادِهَا‏.‏

وَفِي الْقُنْيَةِ مِنْ بَابِ اسْتِئْجَارِ الْمُسْتَقْرِضِ الْمُقْرِضَ‏:‏ التَّعَارُفُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ لَا يَثْبُتُ بِتَعَارُفِ أَهْلِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْبَعْضِ‏.‏

وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ كَانَ يَثْبُتُ وَلَكِنْ أَحْدَثَهُ بَعْضُ أَهْلِ بُخَارَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا مُطْلَقًا كَيْفَ، وَإِنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَمْ يَعْرِفْهُ عَامَّتُهُمْ بَلْ تَعَارَفَهُ خَوَاصُّهُمْ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَارُفُ بِهَذَا الْقَدْرِ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ وَهُوَ الصَّوَابُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَذَكَرَ فِيهَا مِنْ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ قُبَيْلَ التَّحَرِّي؛ لَوْ تَوَاضَعَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى زِيَادَةٍ فِي سَنَجَاتِهِمْ الَّتِي تُوزَنُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالْإِبْرَيْسَمُ عَلَى مُخَالَفَةِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي إجَارَةِ الْبَزَّازِيَّةِ فِي إجَارَةِ الْأَصْلِ؛ اسْتَأْجَرَهُ؛ لِيَحْمِلَ طَعَامَهُ بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا عَلَى أَنْ يَنْسِجَهُ بِالثُّلُثِ‏.‏

وَمَشَايِخُ بَلْخِي وَخُوَارِزْمَ أَفْتَوْا‏:‏ يَجُوزُ إجَارَةُ الْحَائِكِ لِلْعُرْفِ، وَبِهِ أَفْتَى أَبُو عَلِيٍّالنَّسَفِيُّ أَيْضًا؛ الْفَتْوَى عَلَى جَوَابِ الْكِتَابِ لَا الطَّحَّانِ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ إبْطَالُ النَّصِّ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِيهَا مِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ فِي الْقَوْلِ السَّادِسِ مِنْ أَنَّهُ صَحِيحٌ‏.‏

قَالُوا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِرَارًا مِنْ الرِّبَا فَأَهْلُ بَلْخِي اعْتَادُوا الدَّيْنَ، وَالْإِجَارَةَ وَهِيَ لَا تَصِحُّ فِي الْكَرْمِ، وَأَهْلُ بُخَارَى اعْتَادُوا الْإِجَارَةَ الطَّوِيلَةَ وَلَا يُمْكِنُ فِي الْأَشْجَارِ فَاضْطُرُّوا إلَى بَيْعِهَا وَفَاءً‏.‏

وَمَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ أَمْرٌ إلَّا اتَّسَعَ حُكْمُهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ، وَلَكِنْ أَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِاعْتِبَارِهِ؛ فَأَقُولُ عَلَى اعْتِبَارِهِ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَى بِأَنَّ مَا يَقَعُ فِي بَعْضِ أَسْوَاقِ الْقَاهِرَةِ مِنْ خُلُوِّ الْحَوَانِيتِ لَازِمٌ، وَيَصِيرُ الْخُلُوُّ فِي الْحَانُوتِ حَقًّا لَهُ؛ فَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلَا إجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ وَقْفًا‏.‏

وَقَدْ وَقَعَ فِي حَوَانِيتِ الْجَمَلُونِ بِالْغُورِيَّةِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْغُورِيَّ لَمَّا بَنَاهَا أَسْكَنَهَا لِلتُّجَّارِ بِالْخُلُوِّ وَجَعَلَ لِكُلِّ حَانُوتٍ قَدْرًا أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ بِمَكْتُوبِ الْوَقْفِوَكَذَا أَقُولُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ، قَدْ تَعَارَفَ الْفُقَهَاءُ بِالْقَاهِرَةِ النُّزُولَ عَنْ الْوَظَائِفِ بِمَالِ يُعْطَى لِصَاحِبِهَا وَتَعَارَفُوا ذَلِكَ فَيَنْبَغِي الْجَوَازُ، وَأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لَهُ وَقَبَضَ مِنْهُ الْمَبْلَغَ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ‏.‏

وَقَدْ اعْتَبَرُوا عُرْفَ الْقَاهِرَةِ فِي مَسَائِلَ؛ مِنْهَا مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مِنْ دُخُولِ السُّلَّمِ فِي الْبَيْتِ الْمَبِيعِ فِي الْقَاهِرَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ طَبَقَاتٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِهِ‏.‏

وَقَدْ تَمَّتْ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ وَهِيَ سِتٌّ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ لَا ثَوَابَ إلَّا بِالنِّيَّةِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ‏.‏

الْخَامِسَةُ‏:‏ الضَّرَرُ يُزَالُ‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ‏.‏

وَالْآنَ نَشْرَعُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْقَوَاعِدِ فِي قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ‏.‏

النَّوْعُ الثَّانِيْ مِنَ الْقَوَاعِدِ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى‏:‏ الِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ

وَدَلِيلُهَا الْإِجْمَاعُ‏.‏

وَقَدْ حَكَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلَ، وَخَالَفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَعِلَّتُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي بِأَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ حُكْمٌ وَفِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ‏.‏

وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْهِدَايَةِ‏:‏ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الثَّانِيَ كَالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

لِأَنَّهُ يَكْفِي بِأَنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ السَّبْقِ مَعَ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْعِنَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ إنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ لِلْأَصْلِ بِفَرْعِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَضَاءِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ بِالْقَضَاءِ‏.‏

وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْفَرْعَ يُرَجَّحُ أَصْلُهُ مِنْ حَيْثُ بَقَاؤُهُ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْهُ، فَالشَّيْئَانِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا فَرْعٌ فَإِنَّهُ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَا فَرْعَ لَهُ إلَى آخِرِهِ‏.‏

وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ عَمِلَ بِالثَّانِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا قَضَاءَ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً بِالتَّحَرِّي إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ إلَى أُخْرَى ثُمَّ عَادَ إلَى الْأُولَى‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّرْحِ، وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافًا فِي الْخُلَاصَةِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا يَسْتَقْبِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ يَسْتَقْبِلُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ ثُمَّ تَابَ فَأَعَادَهَا لَمْ تُقْبَلْ‏.‏

وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ‏.‏

وَأَصْلُهُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ‏:‏

مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِعِلَّةٍ ثُمَّ زَالَتْ ثُمَّ ادَّعَاهَا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ‏:‏ الصَّبِيِّ، وَالْعَبْدِ، وَالْكَافِرِ، وَالْأَعْمَى‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا نَجَسٌ، فَتَحَرَّى بِأَحَدِهِمَا، وَصَلَّى ثُمَّ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى طَهَارَةِ الْآخَرِ لَمْ يَعْتَبِرْ الثَّانِيَ‏.‏

وَعَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ فِي الشَّهَادَاتِ‏:‏ شَهِدَتْ طَائِفَةٌ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، وَطَائِفَةٌ بِمَوْتِهِ بِالْكُوفَةِ، بَغْتَةً‏:‏ فَإِنْ قُضِيَ بِإِحْدَاهُمَا قَبْلَ حُضُورِ الْأُخْرَى لَمْ تُعْتَبَرْ الثَّانِيَةُ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا‏.‏

وَمُقْتَضَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ تَحَرَّى، وَظَنَّ طَهَارَةَ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ فَاسْتَعْمَلَهُ وَتَرَكَ الْآخَرَ ثُمَّ تَغَيَّرَ ظَنُّهُ لَا يَعْمَلُ بِالثَّانِي بَلْ يَتَيَمَّمُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ التَّحَرِّي فِي الْإِنَاءَيْنِ‏.‏

وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ قُبَيْلَ التَّيَمُّمِ‏:‏ لَوْكَانَا إنَاءَيْنِ يُرِيقُهُمَاوَيَتَيَمَّمُ اتِّفَاقًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَا يُنْقَضُ الْأَوَّلُ وَيَحْكُمُ بِالْمُسْتَقْبَلِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يُنْقَضُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ‏:‏ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا شُرُوطَ الْقَضَاءِ وَمَعْنَى الْإِمْضَاءِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَكَتَبْنَا الْمَسَائِلَ الْمُسْتَثْنَاةَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي‏.‏

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، أَعْنِي الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ مَسْأَلَتَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا نَقْضُ الْقِسْمَةِ إذَا ظَهَرَ فِيهَا غَبْنٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ بِالِاجْتِهَادِ فَكَيْفَ يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ‏؟‏

وَالْجَوَابُ أَنَّ نَقْضَهَا لِفَوَاتِ شَرْطِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ الْمُعَادَلَةُ فَظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ظَهَرَ خَطَأُ الْقَاضِي بِفَوْتِ شَرْطٍ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ إذَا رَأَى الْإِمَامُ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلِلثَّانِي تَغْيِيرُهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ‏.‏

وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا رَآهَا الثَّانِي وَجَبَ اتِّبَاعُهَا‏.‏

تَنْبِيهَاتٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ كَثُرَ فِي زَمَانِنَا، وَقَبْلَهُ أَنَّ الْمُوَثِّقِينَ يَكْتُبُونَ عَقِبَ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ، وَإِجَارَةٍ وَوَقْفٍ، وَإِقْرَارٍ وَحُكْمٍ بِمُوجِبِهِ‏.‏

فَهَلْ يُمْنَعُ النَّقْضُ لَوْ رُفِعَ إلَى آخَرَ‏؟‏

فَأَجَبْت مِرَارًا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ بِهِ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ مِنْ خَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ يَمْنَعُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ حُكْمًا صَحِيحًا تَمَسُّكًا بِمَا ذَكَرَهُ الْعِمَادِيُّ فِي فُصُولِهِ وَتَبِعَهُ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَالْكَرْدَرِيُّ فِي فَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ وَالْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِي فَتَاوِيهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ‏.‏

فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لَا حُكْمًا‏.‏

وَزَادَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ لَوْ قَضَى شَافِعِيٌّ بِمُوجِبِ بَيْعِ الْعَقَارِ لَا يَكُونُ قَضَاءً بِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي حَنَفِيًّا لَا يَكُونُ قَضَاءً بِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفُرُوعِ، وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الْغَرْسِ وَأَوْضَحَهُ بِأَمْثِلَةٍ‏.‏ الثَّانِي‏:‏ لَوْ قَالَ الْمُوَثِّقُ، وَحَكَمَ بِمُوجِبِهِ حُكْمًا صَحِيحًا مُسْتَوْفِيًا شَرَائِطَهُ الشَّرْعِيَّةَ‏.‏

فَهَلْ يَكْتَفِي بِهِ‏؟‏

فَأَجَبْت مِرَارًا بِأَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَالدَّعْوَى وَكَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ كَمَا فِي الْمُلْتَقَطِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ‏.‏

وَلَوْ كَتَبَ فِي السِّجِلِّ‏:‏ ثَبَتَ عِنْدِي بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْحُكْمِيَّةُ أَنَّهُ كَذَا‏.‏

لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْأَمْرَ عَلَى التَّفْصِيلِ، ثُمَّ قَالَ، وَحَكَى أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقْصَى قَاضِي عَنْبَسَةَ بِبُخَارَى كَانَ يَكْتُبُ الْإِمَامُ الْحَلْوَانِيُّ فِي مَحَاضِرِهِمْ لَا، فَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ أَجْوِبَتَهُ فِي سِجِلَّاتٍ كُتِبَتْ بِتِلْكَ النُّسْخَةِ بِعَيْنِهَا بِنَعَمْ؛ فَقَالَ‏:‏ إنَّكُمْ لَا تُفَسِّرُونَ الشَّهَادَةَ، وَقَبْلَك الْقَاضِي عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَقَبْلَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ، وَكَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا؛ فَأَمَّا أَنْتَ وَأَمْثَالُك لَا تَثِقُ بِالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْسِيرِ‏.‏

وَعَنْ السَّيِّدِ الْإِمَامِ أَبِي شُجَاعٍ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَتَسَاهَلُ فِي ذَلِكَ كَمَشَايِخِنَا حَتَّى طَالَبْتُهُمْ بِتَفْسِيرِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَأْتُوا بِهَا صَحِيحَةً فَتَحَقَّقَ عِنْدِي أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الِاسْتِفْسَارُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ كِتَابِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ‏:‏ الْأَصْلُ فِي الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ أَنْ يُبَالَغَ فِي الذِّكْرِ وَالْبَيَانِ بِالصَّرِيحِ، وَلَا يُكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ حَتَّى قِيلَ‏:‏ لَا يُكْتَفَى فِي الْمَحَاضِرِ بِأَنْ يَكْتُبَ حَضَرَ فُلَانٌ وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلَانًا فَادَّعَى هَذَا الَّذِي أَحْضَرَهُ، إلَى أَنْ قَالَ، وَكَذَا لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ قَوْلِهِ فَشَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الِاسْتِشْهَاد مَا لَمْ يَذْكُرْ عَقِيبَ دَعْوَى الْمُدَّعِي هَذَا، إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ وَيُكْتَبُ فِي السِّجِلِّ حُكْمُ الْقَاضِي، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ بِتَمَامِهَا‏.‏

وَلَا يُكْتَفَى بِمَا يُكْتَبُ ثَبَتَ عِنْدِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْحَوَادِثُالْحُكْمِيَّةُ إلَى آخِرِهِ، وَحَكَى فِيهَا وَاقِعَةَ الْحَلْوَانِيِّ مَعَ قَاضِي عَنْبَسَةَ إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ وَالْمُخْتَارُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ فِي السِّجِلَّاتِ دُونَ الْمَحَاضِرِ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ يُرَدُّ مَنْ مِصْرٍ إلَى آخَرَ فَلَا يَكُونُ فِي التَّدَارُكِ حَرَجٌ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏

أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِوَاءِ فِي الشَّرْطِ السَّابِقِ فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي الصِّحَّةِ كَانَ الْحُكْمُ بِهَا صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ فِيهَا فَلَا، وَكَذَا الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ إنْ وَقَعَ تَنَازُعٌ فِي مُوجِبٍ خَاصٍّ مِنْ مَوَاجِبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْقَاضِي وَوَقَعَتْ الدَّعْوَى بِشُرُوطِهَا، كَانَ حُكْمًا بِذَلِكَ الْمُوجِبِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِوَقْفِ عَقَارِهِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا وَثَبَتَ مِلْكُهُ لِمَا وَقَفَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى نَاظِرٍ ثُمَّ تَنَازَعَا عِنْدَ قَاضٍ حَنَفِيٍّ، وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ وَمُوجِبِهِ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِالشُّرُوطِ؛ فَلَوْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ عِنْدَ مُخَالِفٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ السَّابِقِ إذْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَعَانِي الشُّرُوطِ إنَّمَا حَكَمَ بِأَصْلِ الْوَقْفِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ صِحَّةِ الشُّرُوطِ، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْعِلَّةِ لَهُ أَوْ النَّظَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ بَيَّنَّا فِي الشَّرْحِ حُكْمَ مَا إذَا حَكَمَ بِقَوْلٍ ضَعِيفٍ فِي مَذْهَبِهِ أَوْ بِرِوَايَةٍ مَرْجُوعٍ عَنْهَا، وَمَا إذَا خَالَفَ مَذْهَبَهُ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مِمَّا لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِهِ مَا إذَا قَضَى بِشَيْءٍ مُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا خَالَفَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لِغَيْرِهِمْ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي التَّحْرِيرِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبٍ مُخَالِفٍ لِلْأَرْبَعَةِ لِانْضِبَاطِ مَذَاهِبِهِمْ وَانْتِشَارِهَا وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِمْ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ شَرْطِ الْوَاقِفِ كَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ النَّصِّ لَا يَنْفُذُ لِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ‏:‏ شَرْطُ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ‏.‏

صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحَيْ الْمَجْمَعِ لِلْمُصَنِّفِ وَابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَصَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّ مَا خَالَفَ شَرْطَ الْوَاقِفِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ نَصُّهُ فِي الْوَقْفِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، كَمَا فِي الْهِدَايَةِ‏:‏ إنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ، وَعِبَارَتُهُ؛ أَوْ يَكُونُ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ بَانَ إلَى آخِرِهِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْوَلْوالِجِيَّة، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَرَّرَ فَرَّاشًا لِلْمَسْجِدِ بِغَيْرِ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ لِلْفَرَّاشِ تَنَاوُلُ الْمَعْلُومِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَبِهَذَا عُلِمَ حُرْمَةُ إحْدَاثِ الْوَظَائِفِ، وَإِحْدَاثِ الْمُرَتَّبَاتِ بِالْأَوْلَى، وَإِنْ فَعَلَ الْقَاضِي، وَإِنْ وَافَقَ الشَّرْعَ نَفَذُوا لَا رَدَّ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ إذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ

وَبِمَعْنَاهَا‏:‏

مَا اجْتَمَعَ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ إلَّا غُلِّبَ الْمُحَرِّمُ‏.‏

وَالْعِبَارَةُ الْأُولَى لَفْظُ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ جَمَاعَةٌ «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»‏.‏

قَالَ الْعِرَاقِيُّ‏:‏ لَا أَصْلَ لَهُ وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ شَارِحُ الْكَنْزِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ مَرْفُوعًا‏.‏

فَمِنْ فُرُوعِهَا مَا إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ قُدِّمَ التَّحْرِيمُ، وَعَلَّلَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَقْلِيلِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمُبِيحُ لَلَزِمَ تَكْرَارُ النَّسْخِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، فَإِذَا جُعِلَ الْمُبِيحُ مُتَأَخِّرًا كَانَ الْمُحَرِّمُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْمُبِيحِ‏.‏

وَلَوْ جُعِلَ الْمُحَرِّمُ مُتَأَخِّرًا لَكَانَ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ، وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا؛ لِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ‏.‏

وَفِي التَّحْرِيرِ يُقَدَّمُ الْمُحَرِّمُ تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ وَاحْتِيَاطًا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ فِي بَابِ التَّعَارُضِ، وَمَنْ ثَمَّةَ قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ‏:‏ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَالتَّحْرِيمُ أَحَبُّ إلَيْنَا‏.‏

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ حَدِيثَ‏:‏ «لَك مِنْ الْحَائِضِ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» وَحَدِيثَ «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ» فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ‏.‏

وَالثَّانِي يَقْتَضِي إبَاحَةَ مَا عَدَا الْوَطْءَ فَرُجِّحَ التَّحْرِيمُ احْتِيَاطًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَخَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ شِعَارَ الدَّمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ عَمَلًا بِالثَّانِي‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ اشْتَبَهَ مُحَرَّمَةٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ يَحِلَّ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَاعِدَةِ الْأَصْلِ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ

وَمِنْهَا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَأْكُولٌ، وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْكُولٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ‏.‏

فَإِذَا نَزَا كَلْبٌ عَلَى شَاةٍ فَوَلَدَتْ لَا يُؤْكَلُ الْوَلَدُ‏.‏

وَكَذَا إذَا نَزَا حِمَارٌ عَلَى فَرَسٍ فَوَلَدَتْ بَغْلًا لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْأَهْلِيُّ إذَا نَزَا عَلَى الْوَحْشِيِّ فَنَتَجَ لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهِ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ التَّاجِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ لَوْ شَارَكَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمَ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ، أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عَمْدًا حَرُمَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا فِي صَيْدِ الْخَانِيَّةِ‏:‏ مَجُوسِيٌّ أَخَذَ بِيَدِ مُسْلِمٍ فَذَبَحَ وَالسِّكِّينُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِاجْتِمَاعِ الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ فَيَحْرُمُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ مُسْلِمٌ عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ بِنَفْسِهِ فَأَعَانَهُ عَلَى مَدِّهِ مَجُوسِيٌّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِوَمِنْهَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ، وَالْبَعْضُ فِي الْحَرَمِ‏.‏

وَالْمَنْقُولُ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِقَوَائِمِهِ لَا لِرَأْسِهِ‏.‏

حَتَّى لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي الْحِلِّ، وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا شَيْءَ بِقَتْلِهِ‏.‏

وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ قَوَائِمِهِ فِي الْحَرَمِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، وَبَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَجَبَ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ؛ لِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فِي الْأُولَى فَفِي الْأَجْنَاسِ‏:‏ الْأَغْصَانُ تَابِعَةٌ لِأَصْلِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏

أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ، وَالْأَغْصَانُ فِي الْحِلِّ فَعَلَى قَاطِعِ أَغْصَانِهَا الْقِسْمَةُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا وَأَغْصَانُهَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَصْلِهَا فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى الْقَاطِعِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كَانَ الْغُصْنُ مِنْ جَانِبِ الْحِلِّ أَوْ مِنْ جَانِبِ الْحَرَمِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ لَوْ اخْتَلَطَتْ مَسَالِيخُ الْمُذَكَّاةِ بِمَسَالِيخِ الْمَيْتَةِ، وَلَا عَلَامَةَ تُمَيِّزُ، وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَيْتَةِ أَوْ اسْتَوَيَا لَمْ يَجُزْ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا بِالتَّحَرِّي إلَّا عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُذَكَّاةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّحَرِّي‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ لَوْ اخْتَلَطَ وَدَكُ الْمَيْتَةِ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِهِ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْمَسْأَلَتَانِ فِي صَلَاةِ الْخُلَاصَةِ مِنْ فَصْلِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ‏.‏

وَمُقْتَضَى الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَطَ لَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ أَتَانٍ، أَوْ مَاءٌ وَبَوْلٌ، عَدَمُ جَوَازِ التَّنَاوُلِ وَلَا بِالتَّحَرِّي‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهُ الْوَطْءُ، وَلَا بِالتَّحَرِّي سَوَاءٌ كُنَّ مَحْصُورَاتٍ أَوْ لَا، كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ، وَقَالُوا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ مُبْهِمًا حَرُمَ الْوَطْءُ قَبْلَ التَّعْيِينِ، وَلِهَذَا كَانَ وَطْءُ إحْدَاهُمَا تَعْيِينًا لِطَلَاقِ الْأُخْرَى‏.‏

وَمِنْ صُوَرِهَا مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ‏.‏

عَلَى قَوْلِ مَنْ خَيَّرَهُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الشَّيْخَانِ فَقَالَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ‏.‏

قَالَ فِي الْمَجْمَعِ مِنْ فَصْلِ نِكَاحِ الْكَافِرِ‏:‏ لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسٌ، أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أُمٌّ وَبِنْتٌ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنْ رَتَّبَ فَالْأَخِيرُ، وَخَيَّرَهُ فِي اخْتِيَارِهِ أَرْبَعًا مُطْلَقًا أَوْ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ‏.‏

وَالْبِنْتَ أَوْ الْأُمَّ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ حَرُمَ لِلِاحْتِمَالِ، وَالِاحْتِيَاطُ الْحُرْمَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ مَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ، وَيُجْعَلُ كِتَابِيًّا وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ مَجُوسِيًّا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

وَلَوْ كَانَ الْكِتَابِيُّ الْأَبَ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ التَّحْرِيمِ؛ لَكِنَّ أَصْحَابَنَا تَرَكُوا ذَلِكَ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ شَرٌّ مِنْ الْكِتَابِيِّ فَلَا يُجْعَلُ الْوَلَدُ تَابِعًا لَهُ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَوَانِي إذَا كَانَ بَعْضُهَا طَاهِرًا، وَبَعْضُهَا نَجِسًا، وَالْأَقَلُّ نَجِسٌ فَالتَّحَرِّي جَائِزٌ، وَيُرِيقُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ، مَعَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يُرِيقَ الْكُلَّ، وَيَتَيَمَّمَ كَمَا إذَا كَانَ الْأَقَلُّ طَاهِرًا‏.‏

عَمَلًا بِالْأَغْلَبِ فِيهِمَا‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ الِاجْتِهَادُ فِي ثِيَابٍ مُخْتَلِطَةٍ بَعْضُهَا نَجِسٌ وَبَعْضُهَا طَاهِرٌ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْأَكْثَرُ نَجِسًا أَوْ لَا‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي أَنَّهُ لَا خَلَفَ لَهَا فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِلْوُضُوءِ خَلَفٌ فِي التَّطْهِيرِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ‏.‏

وَأَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَيَتَحَرَّى لِلشُّرْبِ اتِّفَاقًا كَذَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ قُبَيْلَ التَّيَمُّمِ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِمَسْأَلَةِ الْأَوَانِي الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ لَحْمَتُهُ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ، فَيَحِلُّ إنْ كَانَ الْحَرِيرُ أَقَلَّ وَزْنًا أَوْ اسْتَوَيَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ وَزْنًا وَلَمْ أَرَهُ الْآنَ‏.‏

وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ التَّحَرِّي فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ‏:‏ لَوْ اخْتَلَطَتْ أَوَانِيهِ بِأَوَانِي أَصْحَابِهِ فِي السَّفَرِ، وَهُمْ غُيَّبٌ أَوْ اخْتَلَطَ رَغِيفُهُ بِأَرْغِفَةِ غَيْرِهِ‏.‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَتَحَرَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَا يَتَحَرَّى وَيَتَرَبَّصُ حَتَّى يَجِيءَ أَصْحَابُهُ، وَهَذَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ‏.‏

وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ جَازَ التَّحَرِّي مُطْلَقًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَدْ جَوَّزَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَسَّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لِلْمُحْدِثِ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ كَوْنِ الْأَكْثَرِ تَفْسِيرًا أَوْ قُرْآنًا، وَلَوْ قِيلَ بِهِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ لَكَانَ حَسَنًا‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏

لَوْ سَقَى شَاةً خَمْرًا ثُمَّ ذَبَحَهَا مِنْ سَاعَتِهِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِلَا كَرَاهَةٍ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ التَّحْرِيمُ، وَمُقْتَضَى الْفَرْعِ أَنَّهُ لَوْ عَلَفَهَا عَلَفًا حَرَامًا، لَمْ يَحْرُمْ لَبَنُهَا وَلَحْمُهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَرَعُ التَّرْكَ، ثُمَّ قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ بَعْدَهُ وَلَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ إلَى يَوْمٍ تَحِلُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الْخَامِسَةُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْحَرَامُ مُسْتَهْلَكًا فَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا قَدْ اُسْتُهْلِكَ فِيهِ الطِّيبُ فَلَا فِدْيَةً، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فِي جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ إذَا اخْتَلَطَ مَائِعٌ طَاهِرٌ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ فَالْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ‏.‏

فَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ جَازَتْ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَبَيَّنَّا فِي الطِّهَارَاتِ مِنْ شَرْحِ الْكَنْزِ بِمَاذَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ‏.‏

السَّابِعَةُ‏:‏ لَوْ اخْتَلَطَ لَبَنُ الْمَرْأَةِ بِمَاءٍ أَوْ بِدَوَاءٍ أَوْ بِلَبَنِ شَاةٍ فَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إذَا اسْتَوَيَا احْتِيَاطًا كَمَا فِي الْغَايَةِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ أُخْرَى وَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الرَّضَاعِ‏.‏

الثَّامِنَةُ‏:‏ إذَا كَانَ غَالِبُ مَالِ الْمُهْدِي حَلَالًا، فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّتِهِ، وَأَكْلِ مَالِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ حَرَامٍ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ الْحَرَامَ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا يَأْكُلُ إلَّا إذَا قَالَ‏:‏ إنَّهُ حَلَالٌ وَرِثَهُ أَوْ اسْتَقْرَضَهُ‏.‏

قَالَ الْحَلْوَانِيُّ‏:‏ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَاكِمُ يَأْخُذُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِمَالٍ مُطْلَقٍ ثُمَّ يَنْقُدُهُ مِنْ أَيِّ مَالٍ شَاءَ كَذَا رَوَاهُ الثَّانِي عَنْ الْإِمَامِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِطَعَامِ السُّلْطَانِ، وَالظَّلَمَةِ يَتَحَرَّى فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ حِلُّهُ قَبِلَ وَأَكَلَ، وَإِلَا لَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ اسْتَفْتِ قَلْبَك‏.‏

التَّاسِعَةُ‏:‏ إذَا اخْتَلَطَتْ حَمَامَةُ الْمَمْلُوكِ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا تَحْرُمُ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ‏.‏

قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ اللُّقَطَةِ‏:‏ اتَّخَذَ بُرْجَ حَمَامٍ فِي قَرْيَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَهَا، وَيَعْلِفَهَا وَلَا يَتْرُكَهَا بِلَا عَلَفٍ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ النَّاسُ، فَإِنْ اخْتَلَطَ حَمَامُ غَيْرِ صَاحِبِهَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَلَوْ أَخَذَهَا طَلَبَ صَاحِبَهَا كَالضَّالَّةِ إلَى آخِرِ مَا فِيهَا الْعَاشِرَةُ‏:‏ قَالَ فِي الْقُنْيَةِ مِنْ الْكَرَاهَةِ‏:‏ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ أَكْثَرَ بُيُوعَاتِ أَهْلِ السُّوقِ لَا تَخْلُو عَنْ الْفَسَادِ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْحَرَامَ تَنَزَّهَ عَنْ شِرَائِهِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ يَطِيبُ لَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَدَّمْنَاهُ عَنْ الْمُلْتَقَطِ فِي الْمَبْحَثِ الثَّالِثِ مِنْ قَاعِدَةِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَلَا بَأْسَ بِشِرَاءِ جَوْزِ الدَّلَّالِ الَّذِي يَعُدُّ الْجَوْزَ فَيَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةً، وَشِرَاءُ لَحْمِ السَّلَّاخِينَ إذَا كَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِذَلِكَ عَادَةً، وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ بَيْضِ الْمُقَامِرِينَ الْمُكَسَّرَةِ وَجَوْزَاتِهِمْ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ أَخَذَهَا قِمَارًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

أَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَلْطِ فَمَذْكُورَةٌ بِأَقْسَامِهَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ الْوَدِيعَةِ‏.‏

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ مَا إذَا اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ، وَالْأَخْذُ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْحَرَامِ، كَذَا فِي الْأَصْلِ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏

يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ فِي عَقْدٍ أَوْ نِيَّةٍ وَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ‏:‏

مِنْهَا النِّكَاحُ‏:‏ قَالُوا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ تَحِلُّ وَمَنْ لَا تَحِلُّ، كَمُحَرَّمَةٍ وَمَجُوسِيَّةٍ، وَوَثَنِيَّةٍ وَخَلِيَّةٍ وَمَنْكُوحَةٍ وَمُعْتَدَّةٍ وَمُحْرِمَةٍ، صَحَّ نِكَاحُ الْحَلَالِ اتِّفَاقًا‏.‏

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبِيهِ فِي انْقِسَامِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَهْرِ وَعَدَمِهِ، وَهِيَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ خَمْسٍ أَوْ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ لَا إحْدَاهُنَّ أَوْ إحْدَاهُمَا فَقَطْ‏.‏

وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً مَعًا فِي عَقْدٍ بَطَلَ فِيهِمَا وَمِنْهَا الْمَهْرُ؛ فَإِذَا سَمَّى مَا يَحِلُّ، وَمَا يَحْرُمُ كَأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَدَنٍّ مِنْ خَمْرٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ، وَبَطَلَ الْخَمْرُ‏.‏

وَمِنْهَا الْخُلْعُ؛ كَالْمَهْرِ فَفِيهِمَا غَلَبَ الْحَلَالُ الْحَرَام‏.‏

لِمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَهُمَا لَا يَبْطُلَانِ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّ الصَّغِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا صَحَّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَسَدَ النِّكَاحُ، وَقِيلَ‏:‏ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ‏.‏

وَمِنْهَا الْبَيْعُ؛ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ‏.‏

فَإِنَّهُ يَسْرِي الْبُطْلَانُ إلَى الْحَلَالِ؛ لِقُوَّةِ بُطْلَانِ الْحَرَامِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ خَلٍّ وَخَمْرٍ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ ضَعِيفًا كَأَنْ يَكُونَ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْقِنِّ أَوْ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ عَبْدِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْرِي الْفَسَادُ إلَى الْقِنِّ لِضَعْفِهِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ وَقْفٍ وَمِلْكٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْرِي الْفَسَادُ إلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مَالٌ نَعَمْ إذَا كَانَ مَسْجِدًا عَامِرًا فَهُوَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ الْغَامِرِ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ الْخَرَابِ فَكَالْمُدَبَّرِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الثَّلَاثَةُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا زَادَ، بَلْ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ، لَكِنْ إذَا سَقَطَ الزَّائِدُ قَبْلَ دُخُولِهِ انْقَلَبَ الْبَيْعُ صَحِيحًا‏.‏

وَمِنْهَا مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ مَجْهُولٍ وَمَعْلُومٍ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْمَجْهُولُ لَا تُفْضِي جَهَالَتُهُ إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا يَضُرُّ، وَإِلَّا فَسَدَ فِي الْكُلِّ كَمَا عُلِمَ فِي الْبُيُوعِ‏.‏

وَمِنْهَا الْإِجَارَةُ؛ فَهِيَ كَالْبَيْعِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُمَا يَبْطُلَانِ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِكَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَقَطْ‏.‏

وَلَمْ أَرَ الْآنَ حُكْمَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ نَسَّاجًا؛ لِيَنْسِجَ لَهُ ثَوْبًا، طُولُهُ كَذَا، وَعَرْضُهُ كَذَا فَخَالَفَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، هَلْ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِهِ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ أَصْلًا‏.‏

وَمِنْهَا الْكَفَالَةُ وَالْإِبْرَاءُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْجَائِزِ، وَقَالُوا لَوْ قَالَ لَهَا‏:‏ ضَمِنْت لَك نَفَقَتَك كُلَّ شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَمِنْهَا الْهِبَةُ، وَهِيَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْجَائِزِ‏.‏

وَمِنْهَا الْإِهْدَاءُ؛ قَالُوا‏:‏ لَوْ أَهْدَى إلَى الْقَاضِي مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْإِهْدَاءِ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَزَادَ، يَرُدُّ الْقَاضِي الزَّائِدَ لَا الْكُلَّ، كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْجَائِزِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إنْ زَادَ فِي الْقَدْرِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا زَادَ فِي الْمَعْنَى كَمَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ إهْدَاءَ ثَوْبِ كَتَّانٍ فَأَهْدَى ثَوْبًا حَرِيرًا؛ لَمْ أَرَهُ الْآنَ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَيَنْبَغِي وُجُوبُ رَدِّ الْكُلِّ لَا بِقَدْرِ مَا زَادَ فِي قِيمَتِهِ؛لِعَدَمِ تَمْيِيزِهَا مِنْ الْجَائِزِ‏.‏

وَمِنْهَا الْوَصِيَّةُ؛ فَلَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثِهِ فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُهَا، وَبَطَلَتْ لِلْوَارِثِ؛ كَمَا فِي الْكَنْزِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ‏.‏

وَمِنْهَا الْإِقْرَارُ؛ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ‏:‏ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْمَجْمَعِ مِنْ الْإِقْرَارِ‏:‏ لَوْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ مَعَ أَجْنَبِيٍّ فَتَكَاذَبَا الشَّرِكَةَ صَحَّحَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا بَابُ الشَّهَادَةِ‏:‏ فَإِذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ لَا تَجُوزُ؛ فَفِي الظَّهِيرِيَّةِ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ رَجُلٌ مَاتَ، وَأَوْصَى لِفُقَرَاءِ جِيرَانِهِ بِشَيْءٍ، وَأَنْكَرَتْ الْوَرَثَةُ وَصِيَّتَهُ فَشَهِدَ عَلَى الْوَصِيَّةِ رَجُلَانِ مِنْ جِيرَانِهِ لَهُمَا أَوْلَادٌ مَحَاوِيجُ‏.‏

قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا لِأَوْلَادِهِمَا فِيمَا يَخُصُّ أَوْلَادَهُمَا فَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ بَطَلَتْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ أَمَتَهُمَا، وَفُلَانَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا‏.‏

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَقْفِ الْأَصْلِ؛ إذَا وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ فَشَهِدَ بِذَلِكَ فَقِيرَانِ مِنْ جِيرَانِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ مَا ذُكِرَ فِي الْوَقْفِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَبْطُلَ الشَّهَادَةُ فِي الْبَعْضِ، وَتَبْقَى فِي الْبَعْضِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ أَصْلًا‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَقْفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانُوا قَلِيلِينَ يُحْصَوْنَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْقُنْيَةِ‏:‏ أَخٌ وَأُخْتٌ ادَّعَيَا أَرْضًا، وَشَهِدَا زَوْجُهَا وَرَجُلٌ آخَرُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ الْأُخْتِ وَالْأَخِ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مَتَى رُدَّ بَعْضُهَا تُرَدُّ كُلُّهَا‏.‏

وَفِي رَوْضَةِ الْفُقَهَاءِ إذَا شَهِدَ لِمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ وَلِغَيْرِهِ لَا تَجُوزُ لِمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَقِّ الْآخَرِ فَقِيلَ تَبْطُلُ، وَقِيلَ لَا تَبْطُلُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

كَتَبْنَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ؛ لِأَجْلِ الدُّنْيَا؛ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِسْقٌ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ‏.‏

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا طَابَقَ الدَّعْوَى، وَالْآخَرَ خَالَفَهَا، وَكَتَبْنَا فِي الْفَوَائِدِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَمِنْهَا الْقَضَاءُ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ لِلْبَعْضِ امْتَنَعَ لِلْبَاقِينَ، كَمَا فِي شَهَادَاتِ الْبَزَّازِيَّةِ‏.‏ وَمِنْهَا بَابُ الْعِبَادَاتِ؛ فَلَوْ نَوَى صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ فِيمَا عَدَا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ‏.‏

وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا عَجَّلَ زَكَاةَ سَنَتَيْنِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِمَا، وَإِلَّا فَلَا فِيهِمَا‏.‏

وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا مَا إذَا نَوَى حَجَّتَيْنِ وَأَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا؛ فَإِنَّا نَقُولُ بِدُخُولِهِ فِيهِمَا لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ رَفْضِهِ لِإِحْدَاهُمَا كَمَا عُلِمَ فِي بَابِ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا نَوَى التَّيَمُّمَ لِفَرْضَيْنِ؛؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَمِنْهَا‏:‏ مَا إذَا صَلَّى عَلَى حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ عَلَى الْمَيِّتِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ مَا إذَا اسْتَنْجَى لِلْبَوْلِ بِحَجَرٍ ثُمَّ نَامَ فَاحْتَلَمَ فَأَمْنَى فَأَصَابَ ثَوْبَهُ لَمْ يَطْهُرْ بِالْفَرْكِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ لَا يَطْهُرُ بِهِ فَلَا يَطْهُرُ الْمَنِيُّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ مَسْأَلَةُ الْمَنِيِّ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَحْلٍ يُمْذِي أَوَّلًا وَالْمَذْيُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ يُمْكِنُ جَعْلُ الْبَوْلِ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ تَبَعًا لَهُ أَيْضًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّبِيعَةَ فِيمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُ وَهُوَ الْمَذْيُ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهَا بَابُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ فَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، وَغَيْرَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَعَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ طَلَّقَهَا أَرْبَعًا نَفَذَ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَمِنْهَا‏:‏ وَلَوْ اسْتَعَارَ شَيْئًا؛ لِيَرْهَنَهُ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَرَهَنَهُ بِأَزْيَدَ قَالَ فِي الْكَنْزِ‏:‏ وَلَوْ عَيَّنَ قَدْرًا أَوْ جِنْسًا أَوْ بَلَدًا فَخَالَفَ، ضَمَّنَ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَاسْتَثْنَى الشَّارِحُ مَا إذَا عَيَّنَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَرَهَنَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُضَمَّنُ؛ لِكَوْنِهِ خِلَافًا إلَى خَيْرٍ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجِّرَ وَقْفَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَزَادَ النَّاظِرُ عَلَيْهَا؛ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ الْفَسَادُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ‏.‏

لَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا يَقْبَلُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَالْعَقْدُ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ فِي جَمِيعِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

وَلَيْسَ مِنْ الْقَاعِدَةِ؛ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي الْعِبَادَاتِ جَانِبُ الْحَضَرِ، وَجَانِبُ السَّفَرِ فَإِنَّا لَا نُغَلِّبُ جَانِبَ الْحَضَرِ وَمُقْتَضَاهَا تَغْلِيبُهُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرِّمُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ‏:‏ وَلَوْ ابْتَدَأَ، وَهُوَ مُقِيمٌ فَسَافَرَ قَبْلَ إتْمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ انْتَقَلَتْ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ الْمُسَافِرِ فَيَمْسَحُ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِهِ انْتَقَلَتْ إلَى مُدَّةِ الْمُقِيمِ، وَمُقْتَضَاهَا اعْتِبَارُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهِمَا تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَضَرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ‏.‏

رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُ لَوْ مَسَحَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ حَضَرَا، وَالْآخَرَ سَفَرًا فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مُدَّتَهُ مُدَّةُ الْمُسَافِرِ‏.‏

وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا فَبَلَغَتْ سَفِينَتُهُ دَارَ إقَامَتِهِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ فَسَارَتْ سَفِينَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ‏.‏

وَلَمْ أَرَهُمَا الْآنَ‏.‏

وَعِنْدَنَا فَائِتَةُ السَّفَرِ إذَا قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ يَقْضِيهَا رَكْعَتَيْنِ، وَعَكْسُهُ يَقْضِيهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَأَمَّا بَابُ الصَّوْمِ فَإِذَا صَامَ مُقِيمًا فَسَافَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ أَوْ عَكْسُهُ حُرِّمَ الْفِطْرُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏

تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَاعِدَةُ‏:‏ إذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ، وَالْمُقْتَضِي فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَانِعُ ‏"‏

فَلَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ أَوْ الْمَاءُ عَنْ سُنَنِ الطَّهَارَةِ حُرِّمَ فِعْلُهَا، وَلَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مَضْمُونًا، وَهَدَرًا، وَمَاتَ بِهِمَا، فَلَا قِصَاصَ وَخَرَجَتْ عَنْهَا مَسَائِلُ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ لَوْ اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَمُقْتَضَاهَا أَنْ لَا يُغَسَّلَ كَقَوْلِهِمَا الثَّانِيَةُ‏:‏ لَوْ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ فَمُقْتَضَاهَا عَدَمُ التَّغْسِيلِ لِلْكُلِّ‏.‏

وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا بِتَغْسِيلِ الْكُلِّ، وَلَمْ يُفَصِّلُوا، فَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَصَّلُوا فَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي مِنْ كِتَابِ التَّحَرِّي‏:‏ وَإِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَوْتَى الْكُفَّارِ فَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْكُفَّارِ تُرِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِمْ عَلَامَةٌ، وَالْمُسْلِمُونَ أَكْثَرُ غُسِّلُوا، وَكُفِّنُوا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَيَنْوُونَ بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ، وَيُغَسَّلُونَ، وَيُكَفَّنُونَ، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَقَدْ رَجَّحُوا الْمَانِعَ عَلَى الْمُقْتَضِي فِي مَسْأَلَةِ‏:‏

سُفْلٌ لِرَجُلٍ، وَعُلُوٌّ لِآخَرَ فَإِنْ كُلًّا مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ لِحَقِّ الْآخَرِ فَمِلْكُهُ مُطْلَقٌ لَهُ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْآخَرِ بِهِ مَانِعٌ‏.‏

وَكَذَا تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ، وَالْمُؤَجِّرِ فِي الْمَرْهُونِ، وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ مَنْعٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْحَقُّ هُنَا عَلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ إلَّا مَنْفَعَةٌ بِالتَّأْخِيرِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْمِلْكِ تَفْوِيتُ عَيْنٍ عَلَى الْآخَرِ‏.‏

وَتَمَامُهُ فِي الْعِمَادِيَّةِ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيطَانِ‏.‏

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ هَلْ يُكْرَهُ الْإِيْثَارُ بِالْقُرَبِ‏؟‏

لَمْ أَرَهَا الْآنَ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْجُو مِنْ كَرَمِ الْفَتَّاحِ أَنْ يَفْتَحَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا‏:‏ وَهِيَ الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ‏.‏

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ‏:‏ الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ‏:‏ لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ، وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ، وَالْإِجْلَالُ؛ فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ، وَتَعْظِيمَهُ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ‏:‏ لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ، وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ؛ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ، وَالْعِبَادَاتِ‏.‏

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ‏:‏ لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ‏.‏

قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ‏:‏ لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْفُرُوقِ‏:‏ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ بِطَهَارَتِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ؛ لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسُوغُ فِيهِ الْإِيثَارُ، وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ‏.‏

وَكُرِهَ إيثَارُ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إلَيْهِ قُرْبَةٌ، وَالْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ‏.‏

قَالَ الْأَسْيُوطِيُّ‏:‏ مِنْ الْمُشْكِلِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَنْ جَاءَ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فُرْجَةً فَإِنَّهُ يَجُرُّ شَخْصًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ، فَهَذَا يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ قُرْبَةً، وَهُوَ أَجْرُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

ثُمَّ رَأَيْت فِي الْهِبَةِ مِنْ مُنْيَةِ الْمُفْتِي‏:‏

فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مَعَهُ دَرَاهِمُ فَأَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالْإِيثَارُ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ التَّابِعُ تَابِعٌ

تَدْخُلُ فِيهَا قَوَاعِدُ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ أَنَّهُ لَا يُفْرَدُ بِالْحُكْمِ

وَمِنْ فُرُوعِهَا الْحَمْلُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأُمِّ تَبَعًا، وَلَا يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةُ كَالْبَيْعِ‏.‏

وَمِنْهَا الشُّرْبُ، وَالطَّرِيقُ يَدْخُلَانِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ تَبَعًا، وَلَا يُفْرَدَانِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْأَظْهَرِ‏.‏

وَمِنْهَا لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْحَمْلِ‏.‏

وَمِنْهَا لَا لِعَانَ بِنَفْيِهِ‏.‏

وَخَرَجَتْ عَنْهَا مَسَائِلُ‏:‏

مِنْهَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ بِشَرْطِ أَنْ تَلِدَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ‏.‏

وَمِنْهَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ‏.‏

وَمِنْهَا يَصِحُّ الْإِيصَاءُ لَهُ، وَلَوْ بِحِمْلِ دَابَّةٍ‏.‏

وَمِنْهَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ إنْ بَيَّنَ الْمُقِرُّ سَبَبًا صَالِحًا، وَوُلِدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يَرِثُ بِشَرْطِ وِلَادَتِهِ حَيًّا‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يُورَثُ فَتُقَسَّمُ الْغُرَّةُ بَيْنَ، وَرَثَةِ الْجَنِينِ إذَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ‏.‏

وَمِنْهَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ سَبَبًا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ الْمُدَّةِ فِي الْآدَمِيِّ وَفِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي الْبَهَائِمِ‏.‏

وَمِنْهَا صِحَّةُ تَدْبِيرِهِ‏.‏

وَمِنْهَا ثُبُوتُ نَسَبِهِ‏.‏

فَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي بَابِ اللِّعَانِ‏:‏ إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَمْلِ قَبْلَ، وَضْعِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ لَهُ قَبْلَهُ، فَالْمُرَادُ بَعْضُهَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْعِنَايَةِ‏.‏

وَخَرَجَ عَنْهَا أَيْضًا مَا لَوْ قَالَ الْمَدْيُونُ تَرَكْت الْأَجَلَ أَوْ أَبْطَلْته أَوْ جَعَلْت الْمَال حَالًّا فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْأَجَلُ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ، وَغَيْرِهَا؛ مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلدَّيْنِ، وَالصِّفَةُ تَابِعَةٌ لِمَوْصُوفِهَا فَلَا تُفْرَدُ بِحُكْمٍ‏.‏

وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا لَوْ أَسْقَطَ الْجَوْدَةَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ كَمَا فِي الْأَصْلِ وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ، قَالُوا صَحَّ، ذَكَرَهُ الْعِمَادِيُّ فِي الْفُصُولِ‏.‏

وَمِنْهُ الْكَفِيلُ لَوْ أَبْرَأَهُ الطَّالِبُ صَحَّ‏.‏

مَعَ أَنَّ الرَّهْنَ وَالْكَفِيلَ تَابِعَانِ لِلدَّيْنِ، وَهُوَ بَاقٍ، وَوَافَقْنَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَخَالَفُونَا فِي الْأَجَلِ، وَالْجَوْدَةِ فَارِقِينَ بِأَنَّ شَرْطَ الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصْفُ مِمَّا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ أُفْرِدَ كَالرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ أُفْرِدَ بِالْحُكْمِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ‏.‏

مِنْهَا مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فِي أَيَّامِ الْجُنُونِ، وَقُلْنَا بِعَدَمِ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي سُنَنَهَا الرَّوَاتِبَ‏.‏

وَمِنْهَا مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالٍ لَا يَأْتِي بِالرَّمْيِ، وَالْمَبِيتِ؛ لِأَنَّهُمَا تَابِعَانِ لِلْوُقُوفِ، وَقَدْ سَقَطَ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ مَاتَ الْفَارِسُ سَقَطَ سَهْمُ الْفَرَسِ لَا عَكْسُهُ‏.‏، وَخَرَجَ عَنْهَا مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ كَالْمُقَاتِلَةِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَطَلَبَتِهِمْ، وَالْمُفْتِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، يُفْرَضُ لِأَوْلَادِهِمْ تَبَعًا‏.‏

وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْأَصْلِ تَرْغِيبًا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ‏.‏

وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا‏:‏

الْأَخْرَسُ يَلْزَمُهُ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَالتَّلْبِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، أَمَّا بِالْقِرَاءَةِ فَلَا عَلَى الْمُخْتَارِ مَعَ أَنَّ الْمَتْبُوعَ قَدْ سَقَطَ، وَهُوَ التَّلَفُّظُ‏.‏

وَمِنْهَا إجْرَاءُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ الْأَقْرَعِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُخْتَارِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ‏:‏ يَسْقُطُ الْفَرْعُ إذَا سَقَطَ الْأَصْلُ‏.‏

وَمِنْ فُرُوعِهِ قَوْلُهُمْ‏:‏ إذَا بَرِئَ الْأَصِيلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْفَرْعُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ‏.‏

وَمِنْ فُرُوعِهِ‏:‏ لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو أَلْفٌ، وَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ فَأَنْكَرَ عَمْرٌو لَزِمَ الْكَفِيلَ إذَا ادَّعَاهَا زَيْدٌ دُونَ الْأَصِيلِ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ فَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ بَانَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْخُلْعِ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ قَالَ بِعْت عَبْدِي مِنْ زَيْدٍ فَأَعْتَقَهُ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ عِتْقَ الْعَبْدِ، وَلَمْ يُثْبِتْ الْمَالَ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ قَالَ بِعْته مِنْ نَفْسِهِ فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ عَتَقَ الْعَبْدُ بِلَا عِوَضٍ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ التَّابِعُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَتْبُوعِ

فَلَا يَصِحُّ تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ عَلَى إمَامِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَلَا فِي الْأَرْكَانِ إنْ انْتَقَلَ قَبْلَ مُشَارَكَةِ الْإِمَامِ‏.‏

وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ مَا إذَا سَبَقَ إمَامَهُ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا

وَقَرِيبٌ مِنْهَا‏:‏ يُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ ضِمْنًا مَا لَا يُغْتَفَرُ قَصْدًا‏.‏

وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ، وَالثَّلَاثِينَ مِنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ فِيمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا وَحُكْمًا، وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا‏:‏

مِنْهُ‏:‏ قِنٌّ لَهُمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَوْ شَرَى الْمُعْتِقُ نَصِيبَ السَّاكِتِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَتَمَكَّنُ السَّاكِتُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِهِ إلَى أَحَدٍ، لَكِنْ لَوْ أَدَّى الْمُعْتِقُ الضَّمَانَ إلَى السَّاكِتِ مَلَكَ نَصِيبَهُ‏.‏

وَمِنْهُ غَصَبَ قِنًّا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ، وَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ، وَلَوْ شَرَاهُ قَاصِدًا لَمْ يَجُزْ‏.‏

وَمِنْهُ فُضُولِيٌّ زَوَّجَهُ امْرَأَةً بِرِضَاهَا ثُمَّ الزَّوْجُ، وَكَّلَهُ بَعْدَهُ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَقَالَ نَقَضْت ذَلِكَ النِّكَاحَ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُضْهُ قَوْلًا، وَلَكِنْ زَوَّجَهُ إيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ انْتَقَضَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ‏.‏

وَمِنْهُ لَوْ شَرَى كَرِيرٌ عَيْنًا، وَأَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِقَبْضِهِ لِلْمُشْتَرَى لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غِرَارَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا صَحَّ إذْ الْبَائِعُ لَا يَصْلُحُ، وَكِيلًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ قَصْدًا، وَيَصْلُحُ ضِمْنًا، وَحُكْمًا؛ لِأَجْلِ الْغِرَارَةِ‏.‏

وَمِنْهُ شِرَاءُ مَا لَمْ يَرَهُ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ‏:‏ قَدْ أَسْقَطْت الْخِيَارَ، أَعْنِي خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ، وَهُوَ يَرَاهُ سَقَطَ خِيَارُ رُؤْيَةِ مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ ابْتِدَاءً، وَتَجُوزُ انْتِهَاءً‏.‏

وَمِنْهُ الْقَاضِي إذَا اسْتَخْلَفَ مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُفَوِّضْ لَهُ الِاسْتِخْلَافَ لَمْ يَجُزْ، وَمَعَ هَذَا لَوْ حَكَمَ خَلِيفَتُهُ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا، وَجَازَ الْقَاضِي أَحْكَامَهُ يَجُوزُ‏.‏

وَمِنْهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ، وَيَمْلِكُ إجَازَةُ بَيْعٍ بَائِعِهِ فُضُولِيٌّ؛وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ يُحِيطُ عِلْمُهُ بِمَا أَتَى بِهِ خَلِيفَتُهُ‏.‏

وَوَكِيلُ الْوَكِيلِ كَذَلِكَ، فَتَكُونُ إجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ عَنْ بَصِيرَةٍ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ فِي الِابْتِدَاءِ‏.‏

وَمِنْهُ الْقَاضِي لَوْ قَضَى فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمَيْنِ بِأَنْ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ لَا غَيْرُ، فَقَضَى فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ، فَإِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهُ أَجَازَ مَا قَضَى جَازَتْ إجَازَتُهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

ظَفِرْت بِمَسْأَلَتَيْنِ؛ يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ، عَكْسُ الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ‏.‏

الْأُولَى‏:‏ يَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ الْقَضَاءَ ابْتِدَاءً، وَلَوْ كَانَ عَدْلًا ابْتِدَاءً فَفَسَقَ الْعَزْلُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْكَمَالِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ لَوْ أَبَقَ الْمَأْذُونُ الْحَجْزُ، وَلَوْ أَذِنَ لِلْآبِقِ صَحَّ، كَمَا فِي قَضَاءِ الْمِعْرَاجِ، وَقَيَّدَهُ قَاضِي خَانْ بِمَا فِي يَدِهِ‏.‏

الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ

وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ‏.‏

مِنْهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فِي مَسْأَلَةِ صُلْحِ الْإِمَامِ عَنْ الظُّلَّةِ الْمَبْنِيَّةِ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ فِي مَوَاضِعَ‏.‏

وَصَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ‏:‏ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْ قَاتِلِ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ الْقِصَاصُ، وَالصُّلْحُ‏.‏

وَعَلَّلَهُ فِي الْإِيضَاحِ بِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ لِلْمُسْتَحِقِّ الْعَفْوُ‏.‏

وَأَصْلُهَا مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏إنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ احْتَجْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ فَإِذَا أَيْسَرْتُ رَدَدْتُهُ فَإِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ‏)‏‏.‏

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَالَ‏:‏

بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِينَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ شَاةً كُلَّ يَوْمٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ، شَطْرُهَا، وَبَطْنُهَا لِعَمَّارٍ، وَرُبُعُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُبُعُهَا الْآخَرُ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ‏:‏ وَقَالَ إنِّي أَنْزَلْت نَفْسِي، وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَرْضًا تُؤْخَذُ مِنْهَا شَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَّا اُسْتُسْرِعَ خَرَابُهَا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ وَلَكِنْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ‏:‏ وَالرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ تَفْضِيلٍ، وَتَسْوِيَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمِيلَ فِي ذَلِكَ إلَى هَوًى، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إلَّا مَا يَكْفِيهِمْ، وَيَكْفِي أَعْوَانَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ بَعْدَ إيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى أَرْبَابِهَا قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ كَانَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَسِيبًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ الْخَرَاجِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ قَالَ‏:‏ وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَيْتًا يَخُصُّهُ، وَلَا يَخْلِطُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمًا يَخْتَصُّ بِهِ‏.‏

إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَصْرِفَ إلَى كُلِّ مُسْتَحِقٍّ قَدْرَ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَإِنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ كَانَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَسِيبًا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ فَجَاءَ نَاسٌ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏

يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّك قَسَّمْت هَذَا الْمَالَ فَسَوَّيْت بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْ النَّاسِ إنَاسٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَسَوَابِقُ وَقِدَمٌ فَلَوْ فَضَّلْت أَهْلَ السَّوَابِقِ وَالْقِدَمِ، وَالْفَضْلِ لِفَضْلِهِمْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْقِدَمِ، وَالْفَضْلِ فَمَا أَعَرَفَنِي بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَعَاشٌ فَالْأُسْوَةُ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الْأَثَرَةِ‏.‏

فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَجَاءَ الْفُتُوحُ فَضَّلَ وَقَالَ‏:‏ لَا أَجْعَلُ مَنْ قَاتَلَ مَعَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ قَاتَلَ مَعَهُ؛ فَفَرَضَ لِأَهْلِ السَّوَابِقِ، وَالْقِدَمِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا أَوْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفَرَضَ لِمَنْ كَانَ إسْلَامُهُ كَإِسْلَامِ أَهْلِ بَدْرٍ بِدُونِ ذَلِكَ؛ أَنْزَلَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ مِنْ السَّوَابِقِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْقُنْيَةِ مِنْ بَابِ مَا يَحِلُّ لِلْمُدَرِّسِ، وَالْمُتَعَلِّمِ‏:‏ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعْطِيهِمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْفِقْهِ، وَالْفَضْلِ؛ وَالْأَخْذُ بِمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَمَانِنَا أَحْسَنُ فَتُعْتَبَرُ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ‏:‏ السُّلْطَانُ إذَا تَرَكَ الْعُشْرَ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ جَازَ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ لَهُ فَقِيرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ السُّلْطَانُ الْعُشْرَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ لِبَيْتِ مَالِ الصَّدَقَةِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ إذَا كَانَ فِعْلُ الْإِمَامِ مَبْنِيًّا عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ لَمْ يَنْفُذْ أَمْرُهُ شَرْعًا إلَّا إذَا وَافَقَهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَنْفُذُ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ‏:‏ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ يَدِ أَحَدٍ إلَّا بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏ وَقَالَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ مِنْ كِتَابِ الْوَقْفِ‏:‏ وَلَوْ أَنَّ سُلْطَانًا أَذِنَ لِقَوْمٍ أَنْ يَجْعَلُوا أَرْضًا مِنْ أَرَاضِيِ الْبَلْدَةِ حَوَانِيتَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَسْجِدِ فَرَّقَ أَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِي مَسْجِدِهِمْ، قَالُوا‏:‏ إنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّ، وَالنَّاسِ يَنْفُذُ أَمْرُ السُّلْطَانِ فِيهَا‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ صُلْحًا تَبْقَى عَلَى مِلْكِ مُلَّاكِهَا، فَلَا يَنْفُذُ أَمْرُ السُّلْطَانِ فِيهَا‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَإِنْ كَانَتِ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ صُلْحًا تَبْقَى عَلَى مِلْكِ مُلَّاكِهَا، فَلَا يَنْفُذُ أَمْرُ السُّلْطَانِ فِيْهَا‏.‏ ‏(‏اهـ‏)‏‏.‏

وَفِي صُلْحِ الْبَزَّازِيَّةِ‏:‏ رَجُلٌ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكْتُبَ فِي الدِّيوَانِ اسْمَ أَحَدِهِمَا، وَيَأْخُذَ الْعَطَاءَ، وَالْآخَرُ لَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ، وَيَبْذُلَ لَهُ مَنْ كَانَ الْعَطَاءُ لَهُ مَالًا مَعْلُومًا، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَيُرَدُّ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَالْعَطَاءِ لِلَّذِي جَعَلَ الْإِمَامُ الْعَطَاءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْعَطَاءِ بِإِثْبَاتِ الْإِمَامِ لَا دَخْلَ لَهُ لِرِضَاءِ الْغَيْرِ وَجُعْلِهِ غَيْرَ أَنَّ السُّلْطَانَ إنْ مَنَعَ الْمُسْتَحِقَّ فَقَدْ ظَلَمَ مَرَّتَيْنِ فِي قَضِيَّةِ حِرْمَانِ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِثْبَاتِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

تَنْبِيهٌ آخَرُ‏:‏

تَصَرُّفُ الْقَاضِي فِيمَا لَهُ فِعْلُهُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالتَّرِكَاتِ، وَالْأَوْقَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلِهَذَا قَالَ فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا‏:‏ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثُّلُثِ قِنًّا، وَيَعْتِقَهُ؛ فَبَانَ بَعْدَ الِائْتِمَارِ، وَالْإِيصَاءِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالثُّلُثَيْنِ فَشِرَاءُ الْقَاضِي عَنْ الْمُوصِي كَيْ لَا يَصِيرَ خَصْمًا بِالْعُهْدَةِ، وَإِعْتَاقُهُ لَغْوٌ لِتَعَدِّي الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ‏.‏

قَالَ الْفَارِسِيُّ شَارِحُهُ‏:‏ وَأَمَّا إعْتَاقُهُ فَهُوَ لَغْوٌ؛لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِهِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ؛لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ النَّظَرُ فَيَلْغُو‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَفِي قَضَاءِ الْوَلْوَالِجيَّةِ‏:‏ رَجُلٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى فُقَرَاءِ بَلْدَةِ كَذَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ الْوَصِيُّ بَعِيدًا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَلَهُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ غَرِيمٌ لَهُ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَجِدْ الْوَصِيُّ إلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ سَبِيلًا، فَأَمَرَ الْقَاضِي الْغَرِيمَ بِصَرْفِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى الْفُقَرَاءِ، فَالدَّيْنُ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ، وَوَصِيَّةُ الْمَيِّتِ قَائِمَةٌ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا وَافَقَ الشَّرْعَ‏.‏

وَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ، وَالْوَلْوالِجِيَّة، وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَرَّرَ فَرَّاشًا لِلْمَسْجِدِ بِغَيْرِ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَمْ يَحِلَّ لِلْقَاضِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْفَرَّاشِ تَنَاوُلُ الْمَعْلُومِ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَبِهِ عُلِمَ حُرْمَةُ إحْدَاثِ الْوَظَائِفِ بِالْأَوْقَافِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَعَ احْتِيَاجِهِ لِلْفَرَّاشِ لَمْ يَجُزْ تَقْرِيرُهُ؛ لِإِمْكَانِ اسْتِئْجَارِ فَرَّاشٍ بِلَا تَقْرِيرِ، فَتَقْرِيرُ غَيْرِهِ مِنْ الْوَظَائِفِ لَا يَحِلُّ بِالْأَوْلَى‏.‏

وَبِهِ عُلِمَ أَيْضًا حُرْمَةُ إحْدَاثِ الْمُرَتَّبَاتِ بِالْأَوْقَافِ بِالْأَوْلَى، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ تَقْرِيرِ الْقَاضِي الْمُرَتَّبَاتِ بِالْأَوْقَافِ فَأَجَبْت بِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ وَقْفٍ مَشْرُوطٍ لِلْفُقَرَاءِ فَالتَّقْرِيرُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلِلنَّاظِرِ الصَّرْفُ إلَى غَيْرِهِ، وَقَطْعُ الْأَوَّلِ إلَّا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِعَدَمِ تَقْرِيرِ غَيْرِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ‏.‏

وَهِيَ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ، وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَحِلَّ‏.‏

وَكَذَا إنْ كَانَ مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ، وَقَرَّرَهُ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا‏.‏

ثُمَّ سُئِلْت‏:‏ لَوْ قُرِّرَ مِنْ فَائِضِ وَقْفٍ سَكَتَ الْوَاقِفُ عَنْ مَصْرِفِ فَائِضِهِ فَهَلْ يَصِحُّ‏؟‏ فَأَجَبْت بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا‏.‏

لِمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة‏:‏ إنَّ فَائِضَ الْوَقْفِ لَا يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي بِهِ الْمُتَوَلِّي مُسْتَغَلَّا‏.‏

وَصَرَّحَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَتَبِعَهُ فِي الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بِأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ فَائِضُ، وَقْفٍ لِوَقْفٍ آخَرَ اتَّحَدَ، وَاقِفُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَكَتَبْنَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ أَنَّ مِنْ الْقَضَاءِ الْبَاطِلِ الْقَضَاءَ بِخِلَافِ شَرْطِ الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ كَمُخَالَفَةِ النَّصِّ‏.‏

وَفِي الْمُلْتَقَطِ‏:‏ الْقَاضِي إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

فَعُلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحَائِطَ إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأَشْهَدُوا وَاحِدًا عَلَى مَالِكِهَا ثُمَّ أَبْرَأَهُ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ، كَمَا فِي التَّهْذِيبِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لَهُ كَذَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ‏.‏

الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ

وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْأَسْيُوطِيُّ، مَعْزِيًّا إلَى ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»‏.‏

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَأَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ»‏.‏

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَوْقُوفًا «ادْرَءُوا الْحُدُودَ وَالْقَتْلَ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ»‏.‏

وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ‏:‏ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ‏.‏

وَالشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَسَّمُوهَا إلَى شُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ، وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ، وَإِلَى شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ؛ فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ فَظَنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا‏.‏

كَظَنِّهِ حِلَّ وَطْءِ جَارِيَةِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ، وَإِنْ عَلَا، وَوَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَائِنًا عَلَى مَالٍ، وَالْمُخْتَلِعَةِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَوَطْءِ الْعَبْدِ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَمُسْتَعِيرُ الرَّهْنِ كَالْمُرْتَهِنِ‏.‏

فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ إذَا قَالَ‏:‏ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَلَوْ قَالَ‏:‏ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَجَبَ الْحَدُّ‏.‏

وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَالْآخَرُ لَمْ يَدَّعِ، لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُقِرَّا جَمِيعًا بِعِلْمِهِمَا بِالْحُرْمَةِ وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ‏:‏

جَارِيَةُ ابْنِهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ إذَا، وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمَجْعُولَةُ مَهْرًا إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الزَّوْجَةِ، وَالْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَرْهُونَةُ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ، وَعَلِمَتْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ‏.‏

وَيَدْخُلُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي‏:‏ وَطْءُ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَمُكَاتَبِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَاَلَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَجَارِيَتُهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالزَّوْجَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالرِّدَّةِ أَوْ بِالْمُطَاوَعَةِ لِابْنِهِ أَوْ بِجِمَاعِهِ لِأُمِّهَا ‏(‏انْتَهَى مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ‏)‏‏.‏

وَهُنَا شُبْهَةٌ ثَالِثَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَقْدِ فَلَا حَدَّ إذَا وَطِئَ مُحَرَّمَةً بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ مَوْلَاهُ‏.‏

وَقَالَا‏:‏ يُحَدُّ فِي وَطْءِ مُحَرَّمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، إذَا قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ‏.‏

وَمِنْ الشُّبْهَةِ وَطْءُ امْرَأَةٍ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا وَمِنْهَا شُرْبُ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمَدُ تَحْرِيمُهُ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهَا، وَمِمَّا بُنِيَ عَلَى أَنَّهَا تُدْرَأُ بِهَا أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ إلَّا إذَا كَانَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ‏.‏

وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ إلَّا أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْمَالَ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ حَتَّى إذَا أَنْكَرَ الْقَاذِفُ تُرِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ‏.‏

وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَوْ بَرْهَنَ الْقَاذِفُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَلَوْ بَرْهَنَ بِثَلَاثَةٍ عَلَى الزِّنَا حُدَّ وَحُدُّوا‏.‏

وَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ أَصْلِهِ، وَإِنْ عَلَا‏.‏

وَفَرْعِهِ، وَإِنْ سَفَلَ‏.‏

وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَسَيِّدِهِ وَعَبْدِهِ‏.‏

وَمِنْ بَيْتٍ مَأْذُونٍ بِدُخُولِهِ‏.‏

وَلَا فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا كَمَا عَلِمْت تَفَارِيعَهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَيَسْقُطُ الْقَطْعُ بِدَعْوَاهُ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مِلْكَهُ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ، وَهُوَ اللِّصُّ الظَّرِيفُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ زَوْجَتُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُتَرْجِمِ فِي الْحُدُودِ كَغَيْرِهَا؛ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْمُتَرْجِمِ بَدَلٌ عَنْ عِبَارَةِ الْعَجَمِيِّ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ بِالْأَبْدَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي‏؟‏

أُجِيبُ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَرْجِمِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ كَلَامِ الْأَعْجَمِيِّ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُتَرْجِمُ يَعْرِفُهُ، وَيَقِفُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، لَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ بَلْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يُصَارُ إلَى التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِهِ كَالشَّهَادَةِ يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِقْرَارِ؛ كَذَا فِي شَرْحِ الْأَدَبِ لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ مِنْ الثَّامِنِ، وَالثَّلَاثِينَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْقِصَاصُ كَالْحُدُودِ فِي الدَّفْعِ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ‏.‏

وَمِمَّا فُرِّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ نَائِمًا فَقَالَ ذَبَحْته، وَهُوَ مَيِّتٌ فَلَا قِصَاصَ، وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَمَا فِي الْعُمْدَةِ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ جُنَّ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ دِيَةً‏.‏

وَلَا قِصَاصَ بِقَتْلِ مَنْ قَالَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ‏.‏

وَلَا قِصَاصَ إذَا قَالَ اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ أَخِي أَوْ ابْنِي أَوْ أَبِي‏.‏

لَكِنْ لَا شَيْءَ فِي الْعَبْدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي غَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ مَا إذَا قَالَ‏:‏ اُقْتُلْ ابْنِي، وَهُوَ صَغِيرٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَزَّازِيَّةِ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا قِصَاصَ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْيِيدِ أَوْ لَا‏.‏ وَفِي الْخَانِيَّةِ‏:‏ ثَلَاثَةٌ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ شَهِدُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا عَنْهُ‏.‏

قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا أَنْ يَقُولَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَفَا عَنَّا، وَعَنْ هَذَا الْوَاحِدِ، فَفِي هَذَا الْوَجْهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ أَقْبَلُ فِي حَقِّ الْكُلِّ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏

وَكَتَبْنَا مَسْأَلَةَ الْعَفْوِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مِنْ الدَّعْوَى عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ وَقِيلَ لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا، فَلْيُرَاجَعْ‏.‏

وَكَتَبْت فِي الْفَوَائِدِ أَنَّ الْقِصَاصَ كَالْحُدُودِ إلَّا فِي سَبْعِ مَسَائِلَ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ الْحُدُودُ لَا تُوَرَّثُ وَالْقِصَاصُ يُوَرَّثُ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ، وَلَوْ كَانَ حَدَّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ‏.‏

الرَّابِعَةُ التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ‏.‏

الْخَامِسَةُ‏:‏ يَثْبُتُ بِالْإِشَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ مَسَائِلَ شَتَّى‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ‏.‏

السَّابِعَةُ‏:‏ الْحُدُودُ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ، لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدَّعْوَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ التَّعْزِيرُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ

وَلِذَا قَالُوا يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْحَلِفُ، وَيُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ، وَالْكَفَّارَاتُ تَثْبُتُ مَعَهَا أَيْضًا إلَّا كَفَّارَةَ الْفِطْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا تُسْقِطُهَا، وَلِذَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، وَبِإِفْسَادِ صَوْمٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ كَمَا عُلِمَ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَهَلْ تُسْقِطُهَا‏؟‏ لَمْ أَرَهَا الْآنَ‏.‏

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا فِي الشُّبْهَةِ أَنْ تَكُونَ قَوِيَّةً، قَالُوا‏:‏ فَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فَقَتَلَهُ وَلِيُّ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ يُحَدُّ، وَلَا يُرَاعَى خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ‏.‏ ‏(‏انْتَهَى‏)‏‏.‏